“الحراكة” بين قتل النفس شنقا و مرضى نفسيا وعقليا في أوطانهم، بحكم الأوضاع الاجتماعية المزرية حيث طغت البطالة وعزت المداخيل وارتفعت الأسعار وانتشرت الأمراض وتنوعت الجرائم وشحت الأرض من خيراتها
ماذا فعل الإتحاد الأوروبي هذا ؟ وما هي الإجراءات التي اتخذها على ضوء الكارثة المحزنة والظاهرة المتكررة ؟
إن التاريخ البعيد وحتى القريب أظهر أن الدول الأوربية لا تتخذ من الإجراءات إلا ما يساير مصالحها الأمنية والسياسية وما يهم أرضها وشعوبها، وما اجتماعها الطارئ إلا هروبا إلى الأمام من أجل درء الرماد في العيون ورمي مسؤوليتها عن كوارث الهجرة التي تصفها بغير الشرعية والسرية واتخاذ المزيد من إجراءات التسييج الأمني والعسكري لحدودها الجنوبية وتحميل مسؤولية الفاجعة للآخرين الذين أطلق عليهم الرئيس الفرنسي فرنسوا هولوند وصفا جديدا أخذه من قاموس الإرهاب انه “الإرهابيون مهربو البشر”.
وهو ما فعلته بالضبط القمة الأوروبية إذ قررت الزيادة في الميزانية المرصودة لمراقبة الحدود البحرية أولا ثم في وسائل الإنقاد للغرقى وغيرها من القرارات التي تهم المصالح الخاصة بها دون اهتمام كبير أو صغير بمصالح الدول المتخلفة في الجنوب والشرق لأنها متخلفة في نظر رؤسائها ويجب أن تبقى كذلك لأن تقدم أوربا يتأتى من تخلف إفريقيا والشرق الأوسط.
لذلك لا تريد تلك الدول المتقدمة إلا اتخاذ الإجراءات اللازمة من فرض المزيد من التبعية على هذه الدول المتخلفة جنوب وشرق البحر وربط حكومات هذه الدول بحكومات تلك باتفاقيات أمنية وشروط سياسية وتسهيلات عسكرية ومقابل بضعة ملايين من الدول تصرف عادة لصالح دعم الأمن الأوربي بمفهومه العام.
وهي إجراءات لم تأخذ بعين الاعتبار الأصوات التي ارتفعت في الغرب تنادي بضرورة تغيير المقاربة الأمنية لظاهرة الهجرة إليها بمقاربة إنسانية التي لا تنظر إلى المهاجرين باعتبارهم يهددون الأمن والهوية الأوربية بل إلى بشر يريدون العيش بكرامة مع الأوربيين لذلك يجب القبول والترحيب بهم والعمل على إدماجهم بين المواطنين الأوربيين كما قالت عدة صحف ومنها صحيفة التمايز البريطانية.
وهي الأصوات التي عبرت بحق عن عمق الظاهرة وسببها وعن جل لها هو في الصالح العام للجميع من أوربيين إلى أفارقة وأسيويين دولا وشعوبا.
لكن قرارات الدول ما زالت هي قراراتها السابقة والمقاربة مازالت هي المقاربة في معالجة ظاهرة الهجرة.
وما جعلها كذلك هو موقف حكومات دول الجنوب الذي لم يتغير إلى مواقف فيها من الحزم والجد والصرامة في الحوار مع حكومات الشمال ولصالحها ولصالح شعوبها واتخاذ ما يلزم من إجراءات لحفظ كرامة مواطنيها، وتفادي تكرار مأساة الغرق الذي لا يتوقف و”الحريق” الذي لا ينطفئ لهيبه في قلوب ومشاعر الشباب والشابات الذين يضطرون معه إلى حرق كل الأوراق والهوايات والرمي بذواتهم الفتية في البحر الذي أصبح أسودا بفعل تراكم المآسي والأحزان وتعدد الكوارث في عيون الأمهات والآباء والزوجات والأطفال الذين فقدوا فلذات أكبادهم واعز الناس عليهم وأهم معيلهم الذين لا وجود لغيرهم يأخذ بأيديهم في أوطان لم يحسوا فيها بوطنيتهم أو ينالوا فيها حقوقهم الطبيعية أو الوضعية.
هؤلاء “الغرقى” و “الحراكة” الذين اندفعوا إلى مصيرهم المحزن واللاعقلاني كما يندفع المنتحرون إلى قتل أنفسهم شنقا دون روية أو أعمال للعقل، بعد أن تحولوا إلى مرض نفسيا وعقليا في أوطانهم، بحكم الأوضاع الاجتماعية المزرية حيث طغت البطالة وعزت المداخيل وارتفعت الأسعار وانتشرت الأمراض وتنوعت الجرائم وشحت الأرض من خيراتها ! وانعدمت المساواة وسادت الفوارق في كل شيء داخل المجتمع وانقطع التلاميذ والطلبة عن دراستهم بعد أن تحولت المدارس العمومية إلى اسطبلات والجامعات إلى بنايات لا روح منها أو أمل في ولوج سوق الشغل بعد التخرج منها…
هذه الأوضاع التي لا تزداد إلا تفاقما بحكم الأوضاع السياسية المتخلفة التي سادت وعمت في هذه الدول التي لا علاقة لها بالديمقراطية رغم ما قيل ويقال فيها ولا بالحكم الرشيد الذي لا علاقة له بالراشد أو بأي حكم يوفر الحقوق العامة والخاصة للمواطنين ورغم المحاولات النادرة والمحتشمة هنا وهناك لتغيير أساليب الحكم وأنظمته التي لا تستبدل إلا بأنظمة أفظع لأنها تستند إلى أسس غير ديمقراطية ولا بريئة النوايا في التغيير أو في الوصول إلى السلطة، إن من خلال أركان الجيش أو يفعل المخابرات الداخلية والخارجية، أو للتغيير في الأنظمة البالية بأساليب تدعى الديمقراطية دون أن تكون ديمقراطية أو حداثية إلا بمقدار ما تكرس تلك الأنظمة وتحافظ على استمرارها في الهيمنة السياسية والاقتصادية.
هذه الأوضاع السياسية التي يلعب فيها الغرب من دول الاتحاد الأوربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى ما أصبحت إسرائيل تلعبه من دور محوري في التأثير على مصير الدول وشعوبها بفضل اخطبوط الصهيونية العالمية القوي بتنظيمه وماله والمتمكن بهما هنا وهناك بعدما تمكن أيضا من دول في عقر دارها وعلى حساب إمكانياتها المالية المتأتية عادة من البترول وغيره وصار يسخرها لخدمة أغراضه الاشتراكية والعسكرية والمخابراتية.
وذلك بغاية السيطرة على زمام الأمور في تلك البلدان من أجل الاستغلال الاقتصادي فيها ونهب خيراتها من مواد أولية بمختلف أنواعها وقيمتها إلى كل مجال من شأنه أن يدر الدخل والأرباح على المستغلين سواء في الفلاحة أو في الصناعة والخدمات.
هؤلاء المستغلون الذين يستعملون كل الوسائل لبلوغ غاياتهم وتثبيت نفوذهم ودوامة بما فيها وسائل التجهيل وضرب القيم والمبادئ الشريفة والعادات والتقاليد العريقة التي أبانت التجربة عن سلامتها ودورها في تماسك المجتمعات، ومسخ الهوية الثقافية وحتى الدينية وبالتالي تحويلها إلى شعوب قابلة للإنقياد لا إرادة لها والممسوخة.
ويسخرون أيضا لتحقيق غاياتهم ومبتغاهم اغلب المسؤولين إما بالإكراه أو ربط مصالحهم بمصالحه ورهن مستقبل نظامهم بالاستعمار الجديد.
وإذن فإن هذا الاستعمار الجديد الذي تغلغل في كيانات الدول المتخلفة بأساليبه التي أصبحت مفضوحة وجديدة عوضت أساليب الاستعمار القديم الذي اعتمد على القوة والتدخل المباشر فيها أو بدعوى الحماية هو المسؤول عن الكارثة المعروفة لقتل أزيد من 800 شاب في البحر ، كما كان مسؤولا عن قتل الآلاف فيه وفي حوضه سواء بالقتل المباشر إبان المرحلة الإستعمارية أو بالغرق والتجويع بعد ذلك.
وما ظاهرة الهجرة الغير الشرعية إلا مظهرا من مظاهر الاحتجاج الفردي والجماعي للمواطنين الذين ضاقت بهم السبل في أوطانهم على الاستعمار الغربي وعلى الأنظمة الحاكمة فيها وإشارة منهم إلى المتهم الذي سرق خيراتهم إبان المرحلة الإستعمارية ومازال يسرق…
ولهذا فإن هذه “الهجرة الغير شرعية” لا محالة أنها ستصير شرعية مادام العالم غافلا عن الاعتراف بحق الشعوب على أوطانها وخيراتها ومادام الحكام في إفريقيا والشرق الأوسط غير جادين في سياساتهم ولا مجدين تجاه شعوبهم.
ولن يحد منها تسخير دول الجنوب التي أصبحت تعج شوارعها بمهاجرين غير شرعيين لحراسة دول الشمال أو قرار الزيادة في وسائل وميزانية الانقاد أو قرار ضرب قوارب الهجرة في عقر دارها ! لأن الشعوب تريد الانعتاق وتتوق إلى الكرامة التي هي حق من حقوق الإنسان الطبيعية قبل أن تصبح حقوقا وضعية من خلال القوانين.
تعليقات 0