التسول بمراكش “اليد السفلى ،تطلابت ” من حاجة اقتصادية لفئة وشريحة معينة الى مهنة مستغلة ضعف المظلة القانونية الناتجة عن الخلط بين القانون وتطبيقه
باتت ظاهرة التسول تغزو مجتمعنا بأشكال وأساليب مختلفة ، فهي ظاهرة قديمة جداً ، حيث كانت تمارس من بعض الشرائح والفئات الاجتماعية المعدومة اقتصادياً ، أو من بعض الفئات التي تعاني أمراض معينة مزمنة ، أو من ذوي الحاجات الخاصة ، ولم ترقَ لمستوي ظاهرة عامة ، بل كانت تعبر عن حالات فردية تنتشر هنا وهناك .
ظاهرة التسول تُعدُّ ظاهرة من الظواهر المنبوذة في المجتمع رغم رواجها وانتشارها؛ حيثُ يتوزع هؤلاء المتسوّلون في الشوارع العامة، والأزقّة، وأمام المحال التجارية، وفي الأماكن التي يزدحم فيها الناس عموماً، ورغم كلّ الجهود والمُحاولات المبذولة، في سبيل إيقاف تلك الظاهرة؛ إلا أننا ما زالنا غير قادرين على اقتلاعها، أو تغيير فهم القائمين عليها بمدى سلبية وخطورة ما يقومون به.ومن أشكال التسوُّل يَستخدمُ المُتسوّلون أشكالاً مُختلفةً للقيام بالتسوّل، ويتّخذون كثيراً من الطرق والحيل للحصولِ على المال ويتفنّنون في ذلك، ومن هذه الأشكال إظهارُ الحاجة الماسّة للناس عبر البكاء، كأن يَدّعي المتسوِّل أنّه عابرُ سبيل ضاع ماله أو نفد، فيطلب من الناس المساعدة. انتحالُ بعضِ الأمراض والعاهات غير الحقيقية عبر الخداع والتّمويه؛ كاستخدام المستحضرات التجميلية مثلاً لاستثارة عواطف الناس. طلبُ التّبرعات؛ لأجلِ مشروعٍ خيري كبناءِ المساجد أو المدارس ونحوها. ادّعاء الشخص إصابته بالخلل العقليّ عبر التلفّظ بعباراتٍ غير مفهومة أو التلويح بإشاراتٍ مُبهمة؛ لكسب شَفقة النّاس وأموالهم. اصطحاب الأطفال خاصّةً الأطفال الذين يُعانون من خللٍ أو إعاقة مُعيّنة إلى أماكن مُعيّنة يرتادها الناس بكثرة كالمساجد والأسواق؛ لكسب عواطف الرّحمة والعطف لدى الناس. استئجار أطفالٍ واستخدامهم كوسيلة للتسول مع دفع مقابلٍ لأسرة الطفل؛ حيثُ يقومون بعمل عاهات مُصطنعة للأطفال غالباً ما تكون باستخدام أطراف صناعية مشوّهة. استغلال مشاعر النّاس وعطفهم عبر إظهار وثائق رسميّة وصكوك غير حقيقيّة لحوادث وهميّة يَلزم دفعها كفواتير الماء والكهرباء، أو وصفات الأدوية.
عودة على بدء .. ظاهرة التسول في السابق كانت تعبر عن حاجة اقتصادية لفئة وشريحة معينة ، وكانت مقتصرة عليهم ولا تمثل ظاهرة تخضع للدراسة والبحث والتشريح ، بل كانت تمثل حالات فردية تتناثر هنا وهناك ، في حين إنها في السنوات الأخيرة بدأت تنتشر بشكل واسع وأخذت صورة ظاهرة فعلياً ، وتحولت من حاجة إلي مهنة ، أي بدأت تتدرج وتنمو مستغلة ضعف المظلة القانونية وهذا الضعف ناتج عن الخلط بين القانون وتطبيقه وبين منظومتنا الأخلاقية التي تربينا وفقها بالنظر بعين العطف لهذه الفئة المتسولة ، كما يلعب الجانب الإنساني والديني مدخلا أُستغل لتجاوز القانون ومخالفته للتسول ، وغض النظر عن هذه الظاهرة حتى استشعر المتسولين الآمان ، بل ووجد الحماية القانونية له ، فبدأ يخرج عن المألوف ولا تتم ملاحقته قانونيا ، مما شجع الآخرين للتوجه لامتهان التسول كمهنة رسمية ،خاصة إنها تعتبر من أسرع وأكثر الوسائل إثراءً وتمنح صاحبها مالاً بلا عمل ،وبلا مجهود، وبلا رأسمال.
ما نريد الوصول إليه تدريجيا وبطريقة تساعد على فتح المجال لنا جميعا لاستنفار واستنهاض الذاكرة ، واستدعاء الجوانب البعيدة والتفكير بالسبب الأصلي والبعد عن الأسباب التقليدية لظاهرة التسول ، والتي أول ما نسأل عنها نجيب بشكل مطلق وسريع البطالة ، الفقر …الخ .
ولكن لكي نبدأ من الأصل ومن الجذور الحقيقية دعونا نفكر بالتالي:
أولاً: القانون هو المنظم للحياة الاجتماعية ، والضابط المركزي والصارم لتطبيق العدالة ، فإن غاب القانون والتعامل مع التجاوزات القانونية ، يؤدي ذلك إلي غياب الانضباط الاجتماعي ، وعليه تتعرض هذه المنظومة بعموميتها للانهيار والفساد . فالعواطف الإنسانية والأخلاقية وتغليبها علي الجوانب القانونية تؤدي إلي خلق حالة من التفكك والانسيابية ، وتدفع لارتكاب مخالفات مع مرور الزمن تتحول لظواهر وآفات اجتماعية كظاهرة التسول والدعارة …الخ
ثانياً: القصور القانوني في تنظيم الحياة الاجتماعية ،وإهمال المؤسسة واللبنة الأساسية في المجتمع الأسرة المكون الرئيسي للبناء الاجتماعي ، والمؤسسات العامة والخاصة يؤدي إلي إهمال الأسرة ذاتها داخليا وبين أفرادها وتبدأ حالات التفكك والانفلات الأخلاقي تحت ضغوطات العوز والحاجة ، وتبدأ مظاهر هذا الانفلات تستشري بالمجتمع عامة ، وكذلك القصور والترهل في التطبيق القانوني بالمؤسسات الاجتماعية العامة يؤدي إلي تكدس مظاهر الفساد والفقر والبطالة والأمراض ، حتى تصبح ظاهرة .
ثالثاً: غياب القانون في توفير مصادر دخل ثابتة لجميع أفراد المجتمع ، وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات بين أفراد المجتمع تؤدي إلي ظهور الطبقات الاجتماعية واتساع الهوة بينها ، وينقسم المجتمع إلي أثرياء ، فقراء ، معدومين ، ثم تسول وجريمة .
رابعاً : الخلل في القانون وتنظيم قوانين الاستثمار والتشغيل الفعالة في المجتمعات ، ويقصد بالاستثمار هنا بوجهيه الاقتصادي والاجتماعي ، فالخلل في تنظيم الشق المتعلق بتنظيم العملية الاستثمارية يؤدي لتفشي البطالة وبدورها تتعاظم حتى تصبح فقرا ومن ثم تسول .
وكذلك الغياب القانوني الذي ينظم الاستثمار في الجانب الصحي والرعاية الصحية يدفع من لم يجد الدواء والعلاج في ظل التكاليف المرتفعة نتاج نظام الخصخصة الصحية سيلجأ للتسول لكي يستمر في الحياة .
فخلاصة الحديث أن من أهم الأسباب والدوافع التي تؤدي لانتشار التسول هي:
الأوضاع القانونية التي تنظم الحياة الاجتماعية في المجتمع ، ويتفرع منها أو يندرج تحتها العشرات من الأسباب الفرعية كالأسباب السياسية ، والاقتصادية ، والأخلاقية …الخ ولكنها جميعا تعتبر مخاض لانعدام العدالة ، وغياب سيادة القانون والنظام القانوني العام في تنظيمه للحياة الاجتماعية.
وهذه الآفة ستنمو في مجتمعنا وتتخذ أشكال وألوان مختلفة حتى نعيد للقانون اعتباره واحترامه في ملاحقة هذه المظاهر والتصدي لها بحزم سياسياً ، واقتصادياً، واجتماعياً.
تعليقات 0